مقالات للكاتب

أيهم السهلي

السبت 14 كانون الأول 2024

شارك المقال

سوريا لشعبها

سقط النظام في سوريا، وكنت أظنه جبلاً لا أمل بزعزعة أركانه. ما حدث في ليلة 8 كانون الأول، حصيلة سنوات طويلة من الكبت والسكوت والخوف، وحصيلة ثورة قامت في آذار 2011، و11 يوماً عشناها منذ 27 تشرين الثاني الماضي.
لا بد من توتر وريبة وخوف جديد، لا يمكن الإفلات من كل ذلك، مرة لأن سوريا ابنة الخوف على مرّ أكثر من خمسين عاماً، ومرة لأن القادمين الجدد يبدون ما هو جيد حتى الآن، بحسب مسموعات كثيرة من أنحاء سوريا، من دمشق واللاذقية وطرطوس وحمص. وشخصياً، بوصفي أقف في طرف آخر من "الإسلام السياسي" أو "الجهادي"، أجد أن هناك أموراً لا بد من ملاحظتها، والانتباه إليها، وعدم الاكتفاء بالأشياء الجميلة التي تأتي من دمشق، وهي حقاً جميلة، ومفاجئة للبعض. أولى الملاحظات علم "هيئة تحرير الشام" في أول اجتماع حكومي (10/12/2024)، ما أسباب ذلك؟ هل هي رسالة إلى أطياف الشعب السوري، أن القادم لون واحد؟ تعدّل الأمر في مقابلة أجراها رئيس الحكومة الانتقالية المكلّف محمد البشير مع قناة "الجزيرة"، إذ وضع إلى جانبه فقط العلم السوري الجديد، وللإنصاف، معظم ما قاله في المقابلة مبشّر، علماً أن حكومته ستستمر حتى مطلع آذار. في الملاحظة الثانية، إن حقّ لي أنا الفلسطيني أن أضع ملاحظات على حالة جديدة في سوريا، فإنها تكمن في اجتماع الحكومة ذاته، وبعض ما قيل لاحقاً من رئيس الحكومة المقبلة في مقابلة "الجزيرة"، بأن الحكومة المؤقتة -التي تشكّلت بتوجيهات من القيادة العامة- تستند في نواتها إلى حكومة الإنقاذ التي كانت تعمل في شمال غربي سوريا. لكنّ حكومة الإنقاذ في إدلب كانت من لون واحد، فهل ستكون الحكومة السورية من لون واحد أيضاً، أم أنها ستشمل كل التنوع السوري؟! وهذا ما يجب أن يكون، وإلا كيف سيشعر الجميع بالأمان، ليس من "هيئة تحرير الشام" بل من المستقبل الذي يفترض أن ترسمه معالم الدولة القادمة، والانتخابات التي ستأتي بقوى جديدة، وبتشكيل وطني جديد، يبني سوريا لكل السوريين.

■ ■ ■


الكتابة عن سوريا ليست سهلة على الإطلاق، فهذا البلد الكبير، المركزي في المنطقة والعالم، يخيف من حجم المسؤولية الملقاة على عاتق كل من يتحدّث عنه، أو باسمه. ويخيف كاتب الرأي، والصحافي. وفي المرحلة القادمة لا بد أن يخيف حاكمه. بلد لم يُجرّب فيه توجه آخر منذ تسلم أو انقلاب "البعث" عام 1963 للسلطة، ومنذ تولي حافظ الأسد رئاسة البلاد حتى وفاته عام 2000، وتوريث السلطة لابنه بشار الذي أطيح به قبل أيام. هذا البلد الذي لم يجرّب سياسة أخرى، لم يجرّب أيضاً أن يكون للمواطنين فيه رأي، أو حتى همسة رأي إلا في الغرف المغلقة، والأماكن التي لا يسمع فيها أحد صوت الناس، إلى أن اقتنع الناس بأن الجدران في سوريا لها آذان تسمع. ولم يجرّب مواطنوه معنى المواطنة سوى بالشعارات الملقّنة.
إن الكتابة الآن عن سوريا تحتاج إلى حب واحترام لأصحاب البلاد، لأهلها الذين عانوا ما عانوه، وبسبب الكثير من السياسات داخل البلاد، تحولوا إلى شخصيات هامشية في بلدان الجوار، يتم التعامل معهم بشيء من عدم التقدير والاحترام. حتى باتوا بنظر البعض شخصيات يمكن التنمّر عليها. لن أقول إن هذا الواقع تغيّر، لكنه في طريقه إلى التغيّر، فالبلاد عادت إلى أهلها، ومن المفروض بعد اليوم أن أي نظام سيحكم سوريا، سيحسب حساب الشعب في كل صغيرة وكبيرة، وسيتوقّع الثورة عليه. فالشعب الذي ثار عام 2011، وتمكّن من الفوز اليوم، سيثور مجدداً على الظلم لو وقع. وسيثور لحماية بعضه لو مسّ أحد خصوصية الشعب، وثقافته الشعبية المتوارثة منذ آلاف السنين.

■ ■ ■

وعطفاً على ما سبق، يبدي كثيرون مخاوف من مسائل متعددة، منها التقسيم. الشعب السوري يعرف طريقه جيداً، وفيه من الطاقات ما يجعله قادراً على النهوض ببلده، بمكوّناته كافة. لذا ففكرة التقسيم لن تكون واردة لأن الناس لن يقبلوا بها، ولأن البلد متكامل بعضه مع بعض. وهذا التكامل هو الذي أدّى في وقت من الأوقات إلى الاكتفاء الذاتي.
وهناك مخاوف حول مسألة فلسطين، وهذه الجزئية تنقسم إلى قسمين: الأول: القضية الفلسطينية، وهنا أسجّل رأياً من باب العارف بسوريا وشعبها، فهذا الشعب، وليس من باب الرومانسيات، يعرف فلسطين مثل الفلسطينيين، وإن كان لا يعرف تفاصيل القضية، عكس ما كان يُروّج، وهذا مدخل للقسم الثاني، وهو الشعب الفلسطيني في سوريا. فالفلسطينيون في هذا البلد عاشوا كالمواطنين السوريين تماماً، حتى إنهم تساووا بحرمانهم من حقّي الانتخاب والترشح (على اعتبار أن كل الانتخابات التي جرت سابقاً كانت محسومة وكانت شكلية) ووضعهم كالمواطنين السوريين، كان منذ عهد شكري القوتلي، بالقانون الرقم 260 لعام 1956، والذي يعرّف غير السوري على أنه كل شخص لا يحمل الجنسية السورية باستثناء الفلسطيني، وفق تعبير "السوريين ومن في حكمهم". لذا فالفلسطيني في سوريا مصون بالشعب السوري. وكانت نتيجة هذا الصون، أن الفلسطينيين في سوريا، تعريفهم في حياتهم وأعمالهم بالقول: "فلسطيني سوري أو فلسطيني من سوريا". هذا التعبير الذي يخرج عفوياً له جذوره، وهو بشكل رئيسي وأساسي العلاقة الكاملة بين الناس في السراء والضراء، وهو ما انسحب على الثورة السورية، حين اتخذ الفلسطينيون مواقفهم مثلما انقسم الشعب السوري بين مؤيد ومعارض، وتحديداً في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين، الذي كانت مفارقته الجوهرية أن الأقلية من سكانه هي من الفلسطينيين، لكنّ هويته المعنوية فلسطينية سورية.
وهنا، يحق السؤال عن فلسطين والأراضي السورية المحتلة لدى الحاكمين الجدد، على اعتبار أنهم سيمثّلون الشعب السوري.

■ ■ ■

ليس خافياً أن بعض الفئات في سوريا وفي لبنان خائفة من "زلزال" سوريا، وهذا الخوف دفع البعض، ولا سيما في لبنان، ليقرر عن السوريين ما كان يجب أن يكون في بلدهم. ولعل هذه النقاشات هي الدائرة في بيروت منذ أيام، ولا شيء سواها. لكنّ الجديد أن هناك من بدأ يقدّم مراجعات منطقية لما حدث في سوريا، بالعودة إلى سنوات من الصراع. ولعل مشاهد المعتقلات في سوريا، ساهمت إلى حد كبير في خلق أسئلة جديدة وجوهرية لدى الجميع، عن حقيقة النظام الذي كان قائماً. إضافة إلى معطيات جديدة، كانت غائبة عن البعض، أو متجاهلة أحياناً، وُضعت الآن على طاولات الحوار الكثيرة، وهي أولاً كرامة الشعب السوري في بلده، وحقه في تقرير مستقبله وحده من دون إملاءات أو تدخّلات، فضلاً عن معدة السوريين التي جاعت بكل ما للكلمة من معنى. وأخيراً عن دور الدول الإقليمية في المنطقة، وماذا فعلت إزاء كل المتغيّرات التي جرت منذ أكثر من سنة، ومنذ أقل من ثلاثة أشهر؟
الخوف الموجود مبرّر، وله أسبابه التي خلقت الأسئلة والمعطيات الجديدة، ومع ذلك هناك من يجب أن يوضح مآلات الأمور إلى أين، وأن يقدّم خطاباً يطمئن، مع عدم إغفال المحاكمة العادلة لمرتكبي الجرائم والانتهاكات بحق الشعب السوري وسوريا. كما على الإعلام من الطرف الآخر أن يكون أكثر جدارة بالمرحلة، فيستيقظ على الواقع الجديد، وينتبه إلى أن الفئة التي تشاهده هي من لون واحد، وهي خائفة اليوم، وعلى هذا الإعلام أن يقلّل من اللعب، أو ينهيه، لأن مرحلة جديدة بدأت، وعلى الجميع تحمّل مسؤولياته الوطنية والأخلاقية.

*صحافي فلسطيني

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي